في المكتبة

منذ ما يقارب العامين، وأنا أرتاد مكتبة وسط المدينة بانتظام. هذه المكتبة الفريدة تميزت بتنوعها الغني وتعدد أدوارها، حيث تجد في الطابق الأول مجموعة واسعة من الكتب التي تلبي جميع الاحتياجات والاهتمامات. في الطابق الثاني، توجد الصحف والنشرات التي تواكب الأحداث الجارية، بينما يخصص الطابق الثالث لصالة القراءة والبحث، حيث أقضي معظم وقتي هناك غارقًا في عالم المعرفة. الطابق الرابع هو مملكة الأطفال، يحتوي على مكتبة ملونة وجاذبة للأطفال، أما الطابق الخامس فيحتضن كل ما يتعلق بالفن والموسيقى والعروض المسرحية، بالإضافة إلى استضافة المحاضرات والندوات الثقافية في مواضيع متنوعة.
تقدم المكتبة خدمات لا حدود لها، فهي قادرة على تلبية طلبات الكتب من جميع أنحاء العالم، مما يجعلها محطة ثقافية لا غنى عنها. وكما قال الحكم المستنصر بالله: “هنا صحبة لا يشوبها غش ولا تخشى معها سوء المنقلب ولا مرارة الخذلان. هنا ثمار القرائح والعقول والأفئدة وبحار التجارب وذاكرة الأيام والعصور. لا تعيش معها حياة واحدة ولا زمنًا واحدًا ولا حالًا واحدًا. هنا عاشق يتعذب بالهجران، وهنا عاشق يتنعم بالوصل. هنا فقيرٌ تغرب في أرض الله وغني أصاب حظه. هنا أبطال مهزومون وأبطال منتصرون، أشواق وأحزان ومطامع ومطامح.”
.

 

أحد أكثر المشاهد التي أثرت فيّ بعمق كانت زيارات الأطفال من طلبة الروضة والابتدائي لهذه المكتبة، حيث يأتون للتعرف على تفاصيلها واستكشاف معاني حياتية جديدة. هذا المشهد أثار تساؤلاتي حول جدوى التعليم التقليدي في ظل هذا التدفق الهائل للبيانات وانتشار وسائل المعرفة الرقمية. هل يقتصر التعليم على نقل المعلومات فقط؟
إن للتعليم أهدافًا أعمق تتجاوز سوق العمل والصراع الرأسمالي، تتمثل في بناء إنسان صالح، يحترم الحياة والأحياء، ويساهم في تأسيس مجتمع أقل ظلمًا وفسادًا. فكلما ازدادت معرفة الإنسان ووعيه، ازداد تواضعًا وارتفع عنده حس المسؤولية، وعرف أن لقدراته حدودًا. هذه الرؤية تتجلى بوضوح في بعض التجارب التعليمية التي تحترم نفسها.
مشهد الأطفال وهم يتجولون في المكتبات والمتاحف والكنائس والأماكن العامة لا يتعلق بالمعلومات بقدر ما يتعلق بتعلم فن الحياة، والاحترام، والنظام، والتقدير. هذه هي القيم التي تُعلمها أنظمة التعليم الجيدة، حيث تأتي المعلومات في المرتبة الأخيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *